كما يعتاد المجرم في البيئة الإجرامية على ارتكاب الجريمة، ويعتاد الضحايا في البيئة القمعية على الانتهاكات ويتطبعون مع حالة من الدونية والحياة المهينة، وكما يتطبع الوعي مع مشاهدة المجازر المروعة التي يستنكرها الضمير الجمعي أول حدوثها بشدة ويعمد المجرمون إلى تكرار هذه الجرائم لتطبيع الوعي مع هذا الواقع القبيح؛ كما يحدث كل ذلك، يتطبع الكثير من الناس مع الرذائل حتى تتحول إلى عادة ومع الخيانة حتى تتحول إلى سلوك يومي، مع الظروف غير الإنسانية حتى يتم تجريد الإنسان من كل معاني الإنسانية والشرف، ويتحول إلى مجرد مسخ بشري يعيش في غابة تحكمها شريعة القوة.
في البيئات التي يستشري فيها التنمر والقمع وتشيع الفواحش والانتهاكات، يجب أن يستمر أنصار المشروع الأخلاقي والإنساني في النضال ضد كل مظاهر التطبيع مع التنمر، وضد التطبيع مع الرذائل الأخلاقية، وضد تطبيع الوعي مع المجازر الجماعية.
ولهذه الأسباب أمرنا القرآن الكريم بالاستمرار بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى لو كنا نعرف أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لن يؤدي إلى نتيجة ما، فالمهم هو أداء الواجب والإبقاء على المعنى غير الإنساني للجريمة، ومحاولة عدم تطبيع الوعي معها حتى تتحسن ظروف مقاومة الجريمة.. "وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون* فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون* فلما عتوا عن ما نُهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين".
وكما يتطبع العقل الجمعي مع الرذائل والجرائم يتطبع أيضا مع الكوارث الطبيعية و الأوبئة الخطيرة، وعندما نتذكر بداية أيام الحجر الصحي من جائحة كورونا وكيف كان الحس الصحي قوياً وعلى درجة كبيرة من اليقظة، وكيف بدأ الناس مع طول الأمد بالتطبيع مع الوباء؛ نستشعر خطورة هذه الظاهرة النفسية التي تؤدي إلى التهاون في اتباع إجراءات السلامة، والتطبيع مع مصادر الكوارث.
والقرآن الكريم أخبرنا عن هذه الظاهرة التي أصابت أهل الكتاب ففقدوا حاسة الإيمان اليقظ مع طول العهد، وأصابتهم البلادة الروحية فقست قلوبهم.. "أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ".
ومثلما يطبع البعض مع الرذائل والجرائم والأوبئة ويتطبعون مع الغفلة؛ فإن البعض يتطبع مع المخاطر السياسية والاختراقات الأمينة والفكرية التي تهدد هويتهم وعقيدتهم ووجودهم ومصالحهم. ولكن هذا التطبيع يأخذ مسارين؛ أحدهما مرفوض ومدان والآخر خيار اضطراري: الأول تطبيع التساهل والخيانة والاستسلام للخطر، والثاني تطبيع التكيف مع ثقافة المقاومة طويلة النفس في معركة الصراع الطويل حتى الانتصار على خطر الفيروس باللقاح أو العلاج وعلى العدو بالنصر.
والتطبيع الذي تمارسه أنظمة العار العربية تطبيع من النوع الانهزامي الأول؛ الذي يعمل على تجريد الأمة من وسائل الحماية وإجراءات السلامة ويدمر المناعة الداخلية. وهذه الخيانة تفرض على الشعوب مواجهتها بتطبيع المقاومة، ونقصد به تكييف النفس على ممارسة الحياة الطبيعية مع التكيف في نفس الوقت على ثقافة المقاومة طويلة النفس، والتزام إجراءات السلامة وتقوية المناعة الداخلية، لأن الفيروس الصهيوني يراهن على أن طول الزمن وخيانة الأنظمة سترهق مناعة الشعوب الداخلية وستضطر إلى الانهيار. وهذه مجرد أوهام، فالشعوب قد تصاب أحياناً بالخمول لأسباب متعددة، ولكنها لا تستسلم أبداً لفيروسات العدوان والبغي بغير الحق. وإذا خسر المعركة جيل ما فإن تعاقب الأجيال يجدد الدماء من جديد حتى تستقر الأوضاع على قانون العدل لا قانون القوة، ولا سيما مع استمرار عملية المقاومة طويلة الأمد.
مقالات
خطورة التطبيع مع الرذائل والانتهاكات والأوبئة.. كورونا والعنصرية الصهيونية نموذجاً
نشر في 2020-09-09 10:48:41