الرابطة الإماراتية لمقاومة التطبيع

مقالات

رسائل في الوعي: من التاريخ دروس وعبر (3-3)

رسائل في الوعي

رسائل في الوَعْي*  (3-3)
*الرسالة التاسعة*
*من التاريخ دروس وعبر (3-3)*


تَحدَّثنا في المقالين السابقين عن الخيانة في المشرق، وركّز المقال الأول عن "الخيانة" خلال فترة "الاحتلال الصَّلِيبِيَّ" لبلاد الشام، وفترة الغَزَو المغولي وسقوط "بغداد" و"دمشق". فيما ركّز المقال الثاني على "الخيانة" لمدينة القدس بعد أنّ حررها صلاح الدين الأيوبي. وفي هذا الجزء –الثالث والأخير- من المقال نتحدَّث عن "الخيانة" في الأندلس.
وقد يتساءل البعض: لماذا الحديث عن "الخيانات" مع أن مرتكبوها لا يشرف الأمة ذكرهم؟ ويعود ذلك إلى أن الخيانة ليست جديدة على الأمة بل قديمة قِدم التاريخ. فحادثة وخيانة "ابى رغال"، في قصة "أصحاب الفيل" الذين أرادوا هدم الكعبة شاهدة للعيان أن أصحاب الخيانة: أفراد آثَرُوا ذواتهم وشخوصهم ومصالحهم على مصالح الأمة، فلا ضير عندهم من بيع المقدسات وهَدْر الثّروات والدوس على الكرامات من أجل النزوات والرغبات للحصول على جاه مزعوم وسلطان مرهون، لينالوا مسبّة التاريخ ووصمة الخزي والعار.
وعودا للحديث عن الأندلس، وأول هذه الشواهد حين لجأ كلٌ من "سليمان وعبدالله" أخوا عبدالرحمن الداخل بعد وفاته إلى الفرنجة رافضين استخلاف ولده الحكم بن عبدالرحمن الداخل؛ فتحالفا مع الفرنجة فانخرطا مع جيش "شارلمان" لغزو الأندلس لكنهم هزموا أمام جيوش الخلافة فكفى الله المسلمين شَرِّهم.
وحين ضَعْفت الدولة الأموية في الأندلس بعد وفاة الخليفة "الحكَم المستنصر" سنة 366هـ (976م) واعتلاء ابنه الصغير هشام المؤيَّد بالله سنة 403هـ (1012م) إلى سدة الحكم؛ وجُعل تدبير أَمَّر الدولة إلى حاجبه المنصور بن أبي عامر. وحين رأى قائد الجند "غالب الناصري" استتباب الأمر إلى الوزير "المنصور بن ابى عامر" فما كان منه إلا أن لجأ إلى الملك النصراني "ليون" الذي أمده بالسلاح والعتاد والجند. ولكن الناصري هزم شرَّ هزيمة وقُتل فأراح الله منه البلاد والعباد وتوسّد الخيانة والعار أبّد الدهر.
أما في فترة دول الطوائف (422هـ حتى 897هـ) (1031- 1491م) فالخيانة مَرْتعها ومستقرها وأمراؤها ديدنهم الخيانة منها "رضعوا حتى ثملوا". ويقول ابن حزم واصفاَ إياهم: "والله لو علموا أن في عبادة الصُّلبان تمشية أمورهم لبادروا إليها، فنحن نراهم يستمدّون النصارى فيمكّنُونهم من حُرُم المسلمين...، وربما أعطوهم المدن والقلاع طوعًا فأخلوْها من الإسلام وعمَّروها بالنواقيس".
فأمير طليطلة القادر ابن ذي النُّون يتحالف مع "الفونسو" لإسقاط "بلنسية" بعد ان تخلى "ابن ذي النُّون" عن "طليطلة" لـ "الفونسو" فدخل بلنسية فعَاثّ فيها فساداً وقتلاً وتشريداً ومن ثم أمَّر "الفونسو" عليها ابن "ذي النُّون". ويوم انتصر المسلمون على "الفونسو" في معركة "الزلاقة" الشهيرة  ثّار أهل "بلنسية" على ابن "ذي النُّون" الخائن فقتلوه وحملوا رَأْسه وطافوا به في الأسواق.
 أما "ابن الْأفْطَس" فهو الأخر سلّم "لشبونه" إلى "الفونسو"، والمعتمد ابن عُبَّاد أمير إشبيلية فكان هو الأخر يَدْفع الأموال الطائلة إلى "الفونسو" طلباً للودّ والتحالف معه في القضاء على بَعْض المدن الإسلامية. وحين استولى "الفونسو" على "طليطلة" و"بلنسية" بدأ "الفونسو" يعدُّ العُدَّة لإشبيلية مدينة المعتمد ابن عُبَّاد، فأرسل "الفونسو" خطاب إلى المعتمد يقول فيه (إن الحرَّ شديد والذُباب كثير فأرسل لي مروحة لطرد الذباب). عندها أدرك "ابن عُبَّاد" عاقبة خيانته وأن "الفونسو" عن قريب سينهيه ويستولي على مملكته فاستنجد بدولة المرابطين التي تمكنت من إنقاذ الأندلس من "الخطر النصراني". لكن "ابن عُبَّاد" لم يرتدع فتآمر من جديد ضد "المرابطين" مما عجل بنهايته على يد "ابن تاشفين" الذي قضى على دول الطوائف ووحد الأندلس وأنقذها من الضياع والفرقة وألحقها بدولة المرابطين، لتبقى الأندلس في قوة ومَنْعَة قرون أخرى في عهد المرابطين ومن ثم "الموحدين".
ليعود الضَعف في دولة الموحدين ليبرز الشقاق والنزاع والخيانة من الجديد داخل بلاطها. فهذا أحد الأمراء الملقب بـ"البياسي" الذي انقلب على ابن عمه العادل يستعين "بفرنادو" الثاني، بل إنه تمادى حتى أنه " تَنَصَّر" وهو ابن ثمانين عاماً، لتنتهي حياته بأن قُتل، وحُملت رأسه إلى "إشبيلية". وعلى نهج "البياسي" مضى أخاه ابو زيد و "تَنَصَّر" وتسمى ب"البثنتي" وتحالف مع النصارى ضد المسلمين حتى أن المصادر الغربية تسميه القديس "البثنتي".
وانتهت الأندلس بعد ضعف الموحدين وأصبحت إمارتين إمارة في الشرق تُنسب إلى "محمد بن هود الحازمي"، والإمارة الثانية في وسط وجنوب الأندلس وتنسب إلى "محمد بن يوسف ابن الأحمر الخزرجي". وكعادة أمراء الأندلس في حال الفرقة يستعينون بالنصارى على قِتال بعضهم بعض فتحالف "ابن الأحمر" مع ملك "قشتاله" فرناندو الثالث ضد "ابن هود" فأمده بالسلاح والمؤن لحصار المدن الاسلامية فسقطت "قرطبة" حاضرة الأندلس، ومن ثم "إشبيلية" و"مرسية" حتى انتهت دولة "ابن هود". وبعدها أدرك ابن الأحمر أن الدور جاء على مملكته فاستنجد بـ"المرينيين" في المغرب، فأنجدوه ودامت دولتهم بعدها مئتان وخمسون عاماً حتى سقطت "غرناطة" آخر معقل للمسلمين في عهد "عبدالله الصغير" الذي تسبب في انتهاء حكم المسلمين للأندلس، عندما خرج على عمه فاستنجد بالنصارى فأمدوه بالسلاح والعتاد فمكَّنوه في جزء من مملكة "غرناطة"، لكنهم استحوذوا على الجزء الأكبر بعد التخلص من عمه. ثمَّ جاء الدور عليه حين حاصر "القشتاليون" مناطق وجوده في "غرناطة" فسلّمها لهم ذليلا مهانا مطرودا تلاحقه اللعنات.
وبهذه الخيانة ضاعت الأندلس من أيدي المسلمين وأصبحنا نردد اليوم "الأندلس المفقود"!


الرابطة الإماراتية لمقاومة التطبيع © 2024